لماذا المشاريع التي لا تعبر عن قيم أصحابها تنهار سريعا؟

يقول آرون لوفنستاين: ” النجاح المبني على التخلي عن القيم يشبه الشمعة التي تحترق من طرفيها؛ تضيء بشدة لفترة قصيرة، ثم تنطفئ إلى الأبد”.

تخيل أن تبني قصراً شامخاً على رمال متحركة… تزينه بأفخم الأثاث، وتغمره بأبهى الألوان، ليبدو للناظرين تحفة معمارية فريدة.

يتهافت الناس على زيارته، ويشيدون بروعته، وتتوالى التقارير عن نجاحه الباهر.

لكن مع كل موجة قادمة، يغوص القصر قليلاً في الرمال، وتتسع الشقوق في جدرانه شيئا فشيئا، حتى يأتي اليوم الذي ينهار فيه كل شيء دفعة واحدة.

هكذا هي المشاريع التي تتنكر لقيم مؤسسيها الحقيقية، نجاح ظاهري يخفي خلفه انهيارا وشيكا.

اليوم حيث يتسابق الجميع نحو “النمو بأي ثمن” و”الربح السريع”، وهكذا أصبحت قصص المشاريع التي تخلت عن قيمها الأساسية وانهارت رغم نجاحها الظاهري أكثر شيوعاً مما نتخيل.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تستمر هذه الدائرة الجهنمية في التكرار؟

القيم كعمود فقري للمشاريع

تخيل أنها كالشجرة التي تمتد جذورها عميقا في التربة، فتصمد في وجه أعتى العواصف، المشاريع المتجذرة في قيم أصيلة تستمد قوتها من هذا العمق.

أما المشاريع التي تتنكر لقيمها، فأشبه بالنباتات المعلقة التي تبدو خضراء ومزدهرة، لكنها سرعان ما تذبل عندما تنقطع عنها قطرات الماء الاصطناعية.

باتاغونيا: عندما تنتصر القيم على الأرباح

في عام 1973، قرر متسلق الجبال والمغامر الشاب “إيفون شوينارد” تأسيس شركة ملابس ومعدات تخدم عشاق الطبيعة والمغامرات مثله.

لم يكن يطمح لإمبراطورية تجارية، بل مشروع يمكّنه وأصدقاءه من ممارسة شغفهم بالتسلق مع تأمين دخل معقول.

“لم أرغب يوماً أن أكون رجل أعمال. بدأت كحرفي، أصنع معدات التسلق لنفسي وأصدقائي.” – هكذا وصف شوينارد بدايات باتاغونيا.

مع مرور السنين، نمت باتاغونيا لتصبح علامة تجارية عالمية تقدر بمليارات الدولارات.

لكن على عكس معظم الشركات، لم تتخل باتاغونيا عن قيمها الأساسية المتمثلة في احترام البيئة والمسؤولية الاجتماعية. بل على العكس، كلما كبرت الشركة، تجذرت هذه القيم أكثر.

في عام 1985، قررت الشركة التبرع بـ 1% من مبيعاتها لدعم المنظمات البيئية، وهو قرار استمرت به حتى اليوم.

كما أنها من أوائل الشركات التي استخدمت القطن العضوي في صناعة ملابسها بالرغم من تكلفته العالية، واعتمدت سياسة تصليح منتجاتها مجانا لتقليل الاستهلاك.

وصلت ذروة هذا الالتزام بالقيم في عام 2022، عندما اتخذ شوينارد قرارا غير مسبوق في عالم الأعمال: تحويل ملكية الشركة التي تقدر قيمتها بـ 3 مليارات دولار إلى صندوق استئماني وجمعية خيرية مكرسة لمكافحة التغير المناخي وحماية الأراضي البرية.

“الأرض هي المساهم الوحيد لدينا الآن.” – بهذه الكلمات البسيطة، أعلن شوينارد عن تنازله عن إمبراطورية تجارية لصالح قيمه الأصيلة.

لم يكن هذا القرار مفاجئا لمن يعرف مسيرة باتاغونيا، فهو امتداد طبيعي لتاريخ طويل من الالتزام بالقيم.

والمثير للدهشة أن هذا الالتزام لم يكن عائقا للنجاح التجاري، بل على العكس، أصبح محركا له، حيث خلق ولاءً عميقا من العملاء الذين يتشاركون نفس القيم.

الوجه المظلم: عندما تتنكر المشاريع لقيمها

في الطرف المقابل لباتاغونيا، نجد قصصا مختلفة تماما، مشاريع بدأت بقيم نبيلة ثم تنكرت لها في سبيل نمو أسرع وأرباح أكبر.

“عندما تنفصل رؤية الشركة عن واقعها اليومي، تتحول من كيان حي إلى قناع هش.” – سيث جودين

هذه القصة وغيرها تؤكد حقيقة بسيطة: عندما تسمح الشركات للجشع والطموح الزائف بأن يحل محل القيم الأصيلة، فإنها تحفر قبرها بيدها، مهما بدت ناجحة ظاهرياً.

لماذا تنهار المشاريع التي تتنكر لقيمها؟

  1. فقدان البوصلة الداخلية: عندما تتخلى المشاريع عن قيمها، تفقد البوصلة التي توجهها في اتخاذ القرارات الصعبة. فتصبح قراراتها متضاربة وتفتقر للاتساق، مما يخلق ارتباكاً داخليا.
  2. تآكل ثقة العاملين: الموظفون يشعرون بالخداع عندما يرون فجوة بين القيم المعلنة والممارسات الفعلية، مما يؤدي إلى فقدان الحماس والولاء، وبالتالي انخفاض الإنتاجية والإبداع.
  3. فقدان ثقة العملاء: يستطيع العملاء بسهولة اكتشاف الفرق بين ادعاءات الشركة وأفعالها الحقيقية. وعندما يفقدون الثقة، لا يفقدون فقط ولاءهم للعلامة التجارية، بل يصبحون أبواقا للدعاية السلبية.
  4. الضغط النفسي على المؤسسين: العيش في تناقض مستمر بين القيم الشخصية وممارسات المشروع يخلق ضغطا نفسيا هائلا على المؤسسين، مما يؤثر على قدرتهم على القيادة بفعالية.

“إن الازدواجية بين القول والفعل تشبه تناول السم ببطء؛ قد لا تشعر بتأثيره فورا، لكنه سيدمر جسدك من الداخل مع مرور الوقت.” – روبرت غرينليف

كيف تبني مشروعاً متجذرا في القيم؟

  1. وضوح القيم منذ البداية: قبل التفكير في المنتج أو الخدمة، على المؤسسين تحديد القيم التي يؤمنون بها بعمق، والتي يرغبون أن تكون أساساً لمشروعهم.
  2. اختيار الشركاء المناسبين: الشراكة مع أشخاص يشاركونك نفس القيم أمر حيوي لاستمرارية المشروع. مهما كانت كفاءة الشريك، إذا كانت قيمه متعارضة مع قيمك، فستظهر الخلافات عاجلاً أم آجلاً.
  3. بناء ثقافة تنظيمية داعمة للقيم: القيم ليست شعارات، بل ممارسات يومية. على المؤسسين بناء ثقافة تنظيمية تعزز هذه القيم وتكافئ من يلتزم بها.
  4. الشجاعة في اتخاذ قرارات صعبة: أحياناً تتطلب القيم اتخاذ قرارات تبدو غير منطقية من الناحية التجارية البحتة، لكنها ضرورية للحفاظ على جوهر المشروع.
  5. الشفافية المطلقة: مصارحة الموظفين والعملاء والمستثمرين بالتحديات والأخطاء تبني جسوراً من الثقة تدعم المشروع في أوقات الأزمات.

خاتمة السؤال الجوهري

في نهاية المطاف، ربما علينا إعادة تعريف معنى النجاح نفسه.

هل النجاح هو الوصول إلى قمة الجبل بأي ثمن، حتى لو تخلينا عن قيمنا وهويتنا في الطريق؟

أم أن النجاح الحقيقي هو القدرة على خلق أثر إيجابي دون التنكر لما نؤمن به؟

في عالم يتسابق نحو الأرقام والإنجازات السريعة، يبقى السؤال الأهم: أي إرث نرغب في تركه خلفنا؟ مليارات في البنوك أم قيم تستمر في التأثير حتى بعد رحيلنا؟

ربما كانت كلمات إيفون شوينارد مؤسس باتاغونيا هي خير ختام: “لقد قررت منذ البداية أن أعيش حياة لا أندم عليها. والندم الوحيد الذي يمكن أن أشعر به هو عدم محاولتي فعل الصواب.”

وأنت، أي نوع من المشاريع تحلم ببنائه؟ تلك التي تبهر العالم لسنوات قليلة ثم تنهار، أم تلك التي تترك أثر يدوم للأجيال القادمة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *